فصل: (سورة محمد)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا‏}‏ مَا حَوْلَكُمْ يا أهل مكة ‏{‏مّنَ القرى‏}‏ كحجر ثمود وقرى قوم صالح، والكلام بتقدير مضاف أو تجوز بالقرى عن أهلها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَصَرَّفْنَا الايات‏}‏ أي كررناها ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ وأمر ‏{‏مَا‏}‏ سهل، والترجي مصروف لغيره تعالى أو ‏{‏لَعَلَّ‏}‏ للتعليل أي لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي إلى الايمان والطاعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ‏}‏ فهلا منعهم من الهلاك الذي وقعوا فيه ‏{‏الذين اتخذوا‏}‏ أي آلهتهم الذين اتخذوهم‏.‏

‏{‏مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءالِهَةَ‏}‏ والضمير الذي قدرناه عائداً هو المفعول الأول لاتخذوا و‏{‏ءالِهَةً‏}‏ هو المفعول الثاني و‏{‏قُرْبَاناً‏}‏ بمعنى متقرباً بها حال أي اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونها متقرباً بها إلى الله عز وجل حيث كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ و‏{‏هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ وفي الكلام تهكم بهم‏.‏

وأجاز الحوفي كون ‏{‏قُرْبَاناً‏}‏ مفعولاً من أجله، وأجاز هو أيضاً‏.‏ وابن عطية‏.‏ ومكي‏.‏ وأبو البقاء كونه المفعول الثاني لاتخذوا وجعل ‏{‏ءالِهَةً‏}‏ بدلاً منه، وقال في «الكشاف»‏:‏ لا يصح ذلك لفساد المعنى، ونقل عنه في بيانه أنه لا يصح أن يقال‏:‏ تقربوا بها من دون الله لأن الله تعالى لا يتقرب به، وأراد كما في «الكشف» أنه إذا جعل مفعولاً ثانياً يكون المعنى فلولا نصرهم الذين اتخذوهم قرباناً بدل الله تعالى أو متجاوزين عن أخذه تعالى قرباناً إليهم وهو معنى فاسد‏.‏ واعترض عليه بجعل ‏{‏دُونِ‏}‏ بمعنى قدام كما قيل به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ وبأنه قد قيل‏:‏ إن قرباناً مفعول له فهو غير مختص بالمتقرب به، وجاز أن يطلق على المتقرب إليه وحينئذ يلتئم الكلام‏.‏ وأجيب عن الأول بأنه غير قادح لأنه مع نزارة استعمال دون بمعنى قدام لا يصلح ظرف الاتخاذ لأنه ليس بين يدي الله تعالى وإنما التقرب بين يديه تعالى ولأجله سبحانه، واتخاذهم قرباناً ليس التقرب به لأن معناه تعظيمهم بالعبادة ليشفعوا بين يدي الله عز وجل ويقربوهم إليه سبحانه، فزمان الاتخاذ ليس زمان التقرب البتة، وحينئذ إن كان مستقراً حالاً لزم ما لزم في الأول‏.‏

ولا يجوز أن يكون معمول ‏{‏قُرْبَاناً‏}‏ لأنه اسم جامد بمعنى ما يتقرب به فلا يصلح عاملاً كالقارورة وإن كان فيها معنى القراء، وفيه نظر‏.‏ وأجيب عن الثاني بأن الزمخشري بعد أن فسر القربان بما يتقرب به ذكر هذا الامتناع على أن قوله تعالى بعد‏.‏ ‏{‏بَلْ ضَلُّواْ‏}‏ الخ ينادي على فساد ذلك أرفع النداء، وقال بعضهم في امتناع كون ‏{‏قُرْبَاناً‏}‏ مفعولاً ثانياً و‏{‏ءالِهَةً‏}‏ بدلاً منه‏:‏ إن البدل وإن كان هو المقصود لكن لا بد في غير بدل الغلط من صحة المعنى بدونه ولا صحة لقولهم‏:‏ اتخذوهم من دون الله قرباناً أي ما يتقرب به لأن الله تعالى لا يتقرب به بل يتقرب إليه فلا يصح أنهم اتخذوهم قرباناً متجاوزين الله تعالى في ذلك، وجنح بعضهم إلى أنه يصح أن يقال‏:‏ الله تعالى يتقرب به أي برضاه تعالى والتوسل به جل وعلا‏.‏

وقال الطيبي‏.‏ إن الزمخشري لم يرد بفساد المعنى إلا خلاف المعنى المقصود إذ لم يكن قصدهم في اتخاذهم الأصنام آلهة على زعمهم إلا أن يتقربوا بها إلى الله تعالى كما نطقت به الآيات فتأمل‏.‏

وقرىء ‏{‏قُرْبَاناً‏}‏ بضم الراء ‏{‏بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ‏}‏ أي غابوا عنهم، وفيه تهكم بهم أيضاً كأن عدم نصرهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم أي ظهر ضياعهم عنهم بالكلية وقد امتنع نصرهم الذي كانوا يؤملونه امتناع نصر الغائب عن المنصور ‏{‏وَذَلِكَ‏}‏ أي ضلال آلهتهم عنهم ‏{‏إِفْكِهِمْ‏}‏ أي أثر إفكهم أي صرفهم عن الحق واتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم ‏{‏وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ أي وأثر افترائهم وكذبهم على الله تعالى أو أثر ما كانوا يفترونه على الله عز وجل، وقيل‏:‏ ذلك إشارة إلى اتخاذ الأصنام آلهة أي ذلك الاتخاذ الذي أثره ضلال آلهتهم عنهم كذبهم وافتراؤهم أو والذي كانوا يفترونه وليس بذاك وإن لم يحوج إلى تقدير مضاف‏.‏ وقرأ ابن عباس في رواية ‏{‏إِفْكِهِمْ‏}‏ بفتح الهمزة والإفك والأفك مصدران كالحذر والحذر‏.‏ وقرأ ابن الزبير والصباح بن العلاء الأنصاري‏.‏ وأبو عياض‏.‏ وعكرمة‏.‏ وحنظلة بن النعمان بن مرة‏.‏ ومجاهد وهي رواية عن ابن عباس أيضاً ‏{‏إِفْكِهِمْ‏}‏ بثلاث فتحات على أن إفك فعل ماض وحينئذ الإشارة إلى الاتخاذ أي ذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق، ‏{‏وَمَا كَانُواْ‏}‏ قيل عطف على ذلك أو على الضمير المستتر وحسن للفصل أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي كذلك، والجملة حينئذ معطوفة على الجملة قبلها‏.‏

وأبو عياض‏.‏ وعكرمة أيضاً كذلك إلا أنهما شددا الفاء للتكثير، وابن الزبير أيضاً‏.‏ وابن عباس فيما ذكر ابن خالويه ‏{‏إِفْكِهِمْ‏}‏ بالمد فاحتمل أن يكون فاعل فالهمزة أصلية وأن يكون أفعل والهمزة للتعدية أي جعلهم يأفكون؛ وجوز أن تكون للوجدان كأحمدته وأن يكون أفعل بمعنى فعل، وحكى في «البحر» أنه قرىء ‏{‏إِفْكِهِمْ‏}‏ بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف وهي لغة في الإفك‏.‏ وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب‏.‏ وأبو الفضل الرازي ‏{‏إِفْكِهِمْ‏}‏ اسم فاعل من إفك أي وذلك الاتخاذ صارفهم عن الحق‏.‏ وقرىء ‏{‏وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ مّمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ والمعنى ذلك بعض ما يفترون من الإفك أي بعض أكاذيبهم المفتريات فالافك بمعنى الاختلاق فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن‏}‏ أي أملناهم إليك ووجهناهم لك، والنفر على المشهور ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال لأنه من النفير والرجال هم الذين إذ حزبهم أمر نفروا لكفايته، والحق أن هذا باعتبار الأغلب فإنه يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح، وقد ذكر ذلك جمع من أهل اللغة، وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين، وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفراً، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسيره هنا بما زاد على العشرة ولا يختص بالرجال، والأخذ من النفير لا يدل على الاختصاص بهم بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا‏.‏

والجار والمجرور صفة ‏{‏نَفَراً‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَمِعُونَ القرءان‏}‏ حال مقدرة منه لتخصصه بالصفة أو صفة له أخرى وضمير الجمع لأنه اسم جمع فهو في المعنى جمع، ولذا قرىء‏.‏ ‏{‏صَرَفْنَا‏}‏ بالتشديد للتكثير، و‏{‏إِذْ‏}‏ معمولة لمقدر لا عطف على ‏{‏أَخَا عَادٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 21‏]‏ أي واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفراً من الجن مقدراً استماعهم القرآن لعلهم يتنبهون لجهلهم وغلطهم وقبح ما هم عليه من الكفر بالقرآن والإعراض عنه حيث أنهم كفروا به وجهلوا أنه من عند الله تعالى وهم أهل اللسان الذي نزل به ومن جنس الرسول الذي جاء به وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عنده تعالى وآمنوا به وليسوا من أهل لسانه ولا من جنس رسوله ففي ذكر هذه القصة توبيخ لكفار قريش والعرب، ووقعوعها إثر قصة هود وقومه وإهلاك من أهلك من أهل القرى لأن أولئك كانوا ذوي شدة وقوة كما حكى عنهم في غير آية والجن توصف بذلك أيضاً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 39‏]‏ ووصفهم بذلك معروف بين العرب فناسبت ما قبلها لذلك مع ما قيل إن قصة عاد متضمنة ذكر الريح وهذه متضمنة ذكر الجن وكلاهما من العالم الذي لا يشاهد، وسيأتي الكلام في حقيقتهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا حَضَرُوهُ‏}‏ أي القرآن عند تلاوته، وهو الظاهر وإن كان فيه تجوز، وقيل‏:‏ الرسول صلى الله عليه وسلم عند تلاوته له ففيه التفات ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي قال بعضهم لبعض ‏{‏أَنصِتُواْ‏}‏ اسكتوا لنسمعه، وفيه تأدب مع العلم وكيف يتعلم ‏{‏فَلَمَّا قضى‏}‏ أتم وفرغ عن تلاوته‏.‏ وقرأ أبو مجلز‏.‏ وحبيب بن عبد الله ‏{‏قَضَى‏}‏ بالبناء للفاعل وهو ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم، وأيد بذلك عود ضمير ‏{‏حَضَرُوهُ‏}‏ إليه عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ‏}‏ مقدرين إنذارهم عند وصولهم إليهم، قيل‏:‏ أنهم تفرقوا في البلاد فأنذروا من رأوه من الجن، وكان هؤلاء كما جاء في عدة روايات من جن نصيبين وهي من ديار بكر قريبة من الشام، وقيل‏:‏ من نينوى وهي أيضاً من ديار بكر لكنها قريبة من الموصل، وذكر أنهم كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم، وكان الحضور بوادي نخلة على نحو ليلة مكة المكرمة‏.‏

فقد أخرج أحمد وعبد بن حميد‏.‏ والشيخان‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وجماعة عن ابن عباس قال‏:‏ انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا‏:‏ هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم‏.‏

وفي رواية ابن المنذر عن عبد الملك أنهم لما حضروه قالوا‏:‏ أنصتوا فلما قضى وفرغ صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح ولوا إلى قومهم منذرين مؤمنين لم يشعر بهم حتى نزل ‏{‏قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وفي «الصحيحين» عن مسروق عن ابن مسعود أنه آذنته صلى الله عليه وسلم بهم شجرة وكانوا على ما روى عن ابن عباس سبعة وكذا قال زر وذكر منهم زوبعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنهم كانوا سبعة‏.‏ ثلاثة أمن أهل حران‏.‏ وأربعة من نصيبين وكانت أسماؤهم حسي‏.‏ ومسي‏.‏ وشاصر‏.‏ وماصر‏.‏ والاردوانيان‏.‏ وسرق‏.‏ والأحقم‏.‏ بميم آخره، وفي رواية عن كعب الأحقب بالباء، وذكر صاحب الروض بدل حسي‏.‏ ومسي‏.‏ منشيء‏.‏ وناشيء‏.‏

وأخرج ابن جرير، والطبراني‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هؤلاء النفر‏:‏ كانوا تسعة عشر من أهل تصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم، والخبر السابق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان حين حضر الجن مع طائفة من أصحابه، وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وأحمد‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وأبو داود عن علقمة قال «قلت لابن مسعود‏:‏ هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد‏؟‏ قال‏:‏ ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا‏:‏ استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فأخبرناه فقال أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه أحد من أصحابه ولم يشعر به أحد منهم‏.‏

وأخرج أحمد عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ ‏"‏ قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وأخذت إداوة ولا أحسبها إلا ماء حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسودة مجتمعة قال‏:‏ فخط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ قم ههنا حتى آتيك ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فرأيتهم يتثورون إليه فسمر معهم ليلاً طويلاً حتى جاءني مع الفجر فقال لي‏:‏ هل معك من وضوء قلت‏:‏ نعم ففتحت الإداوة فإذا هو نبيذ فقلت‏:‏ ما كنت أحسبها إلا ماء فإذا هو نبيذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ منها ثم قال يصلي فأدركه شخصان منهم فصفهما خلفه ثم صلى بنا فقلت‏:‏ من هؤلاء يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ جن نصيبين ‏"‏ فهذا يدل على خلاف ما تقدم والجمع بتعدد واقعة الجن، وقد أخرج الطبراني في «الأوسط»‏.‏ وابن مردويه عن الحبر أنه قال‏:‏ صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وذكر الخفاجي أنه قد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ويجمع بذلك اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك، فقد أخرج أبو نعيم‏.‏ والواقدي عن كعب الأحبار قال‏:‏ انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة وهم فلان وفلان وفلان والاردوانيان‏.‏ والأحقب جاء واقومهم منذرين فخرجوا بعد وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء الأحق فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك فواعده رسول الله صلى الله عليه وسلم لساعة من الليل بالحجون‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال في الآية‏:‏ هم اثنا عشر ألفاً من جزيرة الموصل، وفي «الكشاف» حكاية هذا العدد أيضاً وأن السورة التي قرأها صلى الله عليه وسلم عليهم ‏{‏اقرأ باسم رَبّكَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏، ونقل في «البحر» عن ابن عمر‏.‏ وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم أنه عليه الصلاة والسلام قرأ عليهم سورة الرحمن فكان إذا قال‏:‏ ‏{‏فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 13‏]‏ قالوا‏:‏ لا بشيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد، وأخرج أبو نعيم في «الدلائل»‏.‏ والواقدي عن أبي جعفر قال‏:‏ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة وفي معناه ما قيل‏:‏ كانت القصة قبل الهجرة بثلاث سنين بناء على ما صح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم مكث بمكة يوحى إليه ثلاث عشرة سنة وفي المسألة خلاف والمشهور ما ذكر‏.‏

وقيل‏:‏ كان استماع الجن في ابتداء الإيحاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي عند رجوعهم إلى قومهم ‏{‏ياقومنا إِنَّا سَمِعْنَا كتابا‏}‏ جليل الشأن ‏{‏أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى‏}‏ ذكروه دون عيسى عليه السلام مأموراً بالعمل بمعظم ما فيه أو بكله، وقال عطاء‏:‏ لأنهم كانوا على اليهودية ويحتاج إلى نقل صحيح، وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام فلذا قالوا ذلك، وفيه بعد فإن اشتهار أمر عيسى عليه السلام وانتشاراً أمر دينه أظهر من أن يخفى لا سيما على الجن، ومن هنا قال أبو حيان‏:‏ إن هذا لا يصح عن ابن عباس ‏{‏مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ من التوراة أو جميع الكتب الإلهية السابقة ‏{‏يَهْدِى إِلَى الحق‏}‏ من العقائد الصحيحة ‏{‏وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ من الأحكام الفرعية أو ما يعمها وغيرها من العقائد على أنه من ذكر العام بعد الخاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله‏}‏ أرادوا به ما سمعوه من الكتاب ووضفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعدما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم لتلازمهما، وفي الجمع بينهما ترغيب لهم في الإجابة أي ترغيب، وجوز أن يكون أرادوا به الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَءامِنُواْ بِهِ‏}‏ أي بداعي الله تعالى أو بالله عز وجل ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ‏}‏ أي بعض ذنوبكم قيل‏:‏ وهو ما كان خالص حقه عز وجل فإن حقوق العباد لا تغفر بالايمان‏.‏ وتعقبه ابن المنير بأن الحربي إذا نهب الأموال وسفك الدماء ثم حسن إسلامه جب إسلامه إثم ما تقدم بلا إشكال ثم قال ويقال‏:‏ إنه لم يرد وعد المغفرة للكافرين على تقدير الايمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة وذا منه فإن لم يكن لإطراده كذلك سر فما هو إلا أن مقام الكافرين قبض لا بسط فلذلك لم يبسط رجاؤه في مغفرة جملة الذنوب، وقد ورد في حق المؤمنين كثيراً، ورده صاحب الانصاف بأن مقام ترغيب الكافر في الإسلام بسط لا قبض وقد أمر الله تعالى أن يقول لفرعون‏:‏ ‏{‏قَوْلاً لَّيّناً‏}‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏ وهي غير مبعضة و‏{‏مَا‏}‏ للعموم لا سيما وقد وقعت في الشرط‏.‏

وقال بعض أجلة المحققين‏:‏ إن الحربي وإنكان إذا أسلم لا تبقى عليه تبعة أصلاً لكن الذمي إذا أسلم تبقى عليه حقوق الآدميين، والقوم كما نقل عن عطاء كانوا يهوداً فتبقى عليهم تبعاتهم فيما بينهم إذا أسلموا جميعاً من غير حرب فلما كان الخطاب معهم جيء بما يدل على التبعيض، وقيل‏:‏ جيء به لعدم علم الجن بعد بأن الإسلام يجب اثم ما قبله مطلقاً وفيه توقف، وقد يقال‏:‏ أرادوا بالبعض الذنوب السالفة ولو لم يقولوا ذلك لتوهم المخاطبون أنهم إن أجابوا داعي الله تعالى وآمنوا به يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وقيل‏:‏ من زائدة أي يغفر لكم ذنوبكم ‏{‏وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ معد للكفرة، وهذا ونحوه يدل على أن الجن مكلفون، ولم ينص ههنا على ثوابهم إذا أطاعوا وعمومات الآيات تدل على الثواب، وعن ابن عباس لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها، ولعل الاقتصار هنا على ما ذكر لما فيه من التذكير بالذنوب والمقام الإنذار فلذا لم يذكر فيه شيء من الثواب، وقيل‏:‏ لا ثواب لمطيعيهم إلا النجاة من النار فيقال لهم‏:‏ كونوا تراباً فيكونون تراباً، وهذا مذهب ليث بن أبي سليم‏.‏ وجماعة ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وقال النسفي في «التيسير»‏:‏ توقف أبو حنيفة في ثواب الجن في الجنة ونعيمهم لأنه لا استحقاق للعبد على الله تعالى ولم يقل بطريق الوعد في حقهم إلا المغفرة والإجارة من العذاب، وأما نعيم الجنة فموقوف على الدليل‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمني الجن حول الجنة في ربض وليسوا فيها، وقيل‏:‏ يدخلون الجنة ويلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذة ذلك ما يصيبه بنو آدم من لذائذهم، قال النووي في شرح «صحيح مسلم»‏:‏ والصحيح أنهم يدخلونها ويتنعمون فيها بالأكل والشرب وغيرهما، وهذا مذهب الحسن البصري‏.‏ ومالك بن أنس‏.‏ والضحاك‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وغيرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارض‏}‏ ايجاب للإجابة بطريق الترهيب أثر إيجابها بطريق الترغيب وتحقيق لكونهم منذرين واظهار داعي الله من غير اكتفاء بأحد الضميرين بأن يقال‏:‏ يجبه أو يجب داعيه للمبالغة في الايجاب بزيادة التقرير وتربية المهابة وادخال الروعة‏.‏

وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض لتوسيع الدائرة أي فليس بمعجز له تعالى بالهرب وان هرب كل مهرب من أقطارها أو دخل في أعماقها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه وجمع الأولياء باعتبار معنى ‏{‏مِنْ‏}‏ فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع لانقسام الآحاد على الآحاد، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عامر أنه قرأ ‏{‏وَلَيْسَ لَهُمْ‏}‏ بضمير الجمع فإنه لمن باعتبار معناها، وكذا الجمع في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ بذلك الاعتبار أي أولئك الموصوفون بعدم إجابة داعي الله ‏{‏فِي ضلال مُّبِينٍ‏}‏ أي ظاهر كونه ضلالاً بحيث لا يخفى على أحد حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ‏}‏ الهمزة للإنكار والواو على أحد القولين عطف على مقدر دخله الاستفهام يستدعيه المقام‏.‏ والرئية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا ‏{‏أَنَّ الله خَلَقَ السموات والارض وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ‏}‏ أي لم يتعب بذلك أصلا من عيى كفعل بكسر العين، ويجوز فيه الادعام بمعنى تعب كأعيا، وقال الكسائي‏:‏ أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز والتحير في الأمر؛ وأنشدوا‏:‏

عيوا بأمرهم كما *** عيت ببيضتها الحمامة

أي لم يعجز عن خلقهن ولم يتحير فيه، واختار بعضهم عدم الفرق، وقرأ الحسن ‏{‏وَلَمْ يَعْىَ‏}‏ بكسر العين وسكون الياء، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة كما قالوا في بقي بقي بفتح القاف وألف بعدها وهي لغة طيء، ولما بنى الماضي على فعل مفتوح العين بني مضارعه على يفعل مكسورها فجاء يعيي فلما دخل الجازم حذف الياء فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين فسكنت الياء، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏بِقَادِرٍ‏}‏ في حيز الرفع لأنه خبر أن والباء زائدة فيه، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي، وقد أجاز الزجاج ما ظننت أن أحداً بقائم قياساً على هذا، قال أبو حيان‏:‏ والصحيح قصر ذلك على السماع فكأنه قيل هنا‏:‏ أو ليس الله بقادر ‏{‏على أَن يُحْيِىَ الموتى‏}‏ ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى إِنَّهُ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ‏}‏ تقريراً للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود، ولذا قيل‏:‏ إن هذا مشير إلى كبرى لصغرى سهلة الحصول فكأنه قيل‏:‏ إحياء الموتى شيء وكل شيء مقدور له فينتج إن أحياء الموتء مقدور له، ويلزمه أنه تعالى‏:‏ ‏{‏قَادِرٌ على أَن يُحْيِىَ الموتى‏}‏‏.‏

وقرأ الجحدري‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وعمرو بن عبيد‏.‏ وعيسى‏.‏ والأعرج بخلاف عنه ويعقوب ‏{‏يُقَدّرُ‏}‏ بدل ‏{‏بِقَادِرٍ‏}‏ بصيغة المضارع الدال على الاستمرار وهذه القراءة على ما قيل موافقة أيضاً للرسم العثماني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار‏}‏ ظرف عامله قول مضمر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ هذا بالحق‏}‏ أي ويقال‏:‏ ‏{‏يَوْمٍ يُعْرَضُ‏}‏ الخ، والظاهر أن الجملة معترضة، وقيل‏:‏ هي حال، والتقدير وقد قيل، وفيه نظر، وقد مر آنفاً الكلام في العرض بطوله، والإشارة إلى ما يشاهدونه حين العرض من حيث هو من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلاً عن تذكيره وتأنيثه إذ هو اللائق بتهويله وتفخيمه، وقيل‏:‏ هي إلى العذاب بقرينة التصريح به بعد، وفيه تهكم بهم وتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده، وقولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 138‏]‏‏.‏

‏{‏قَالُواْ بلى وَرَبّنَا‏}‏ تصديق بحقيته؛ وأكدوا بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقية ذلك كما في الدنيا وأني لهم‏.‏ وعن الحسن أنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنه العدل‏.‏

‏{‏قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ بسبب استمراركم على الكفر في الدنيا، ومعنى الأمر الإهانة بهم فهو تهكم وتوبيخ وإلا لكان تحصيلاً للحاصل، وقيل‏:‏ هو أمر تكويني؛ والمراد إيجاب عذاب غير ما هم فيه وليس بذاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل‏}‏ واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم أو إذا كان الأمر على ما تحققته من قدرته تعالى الباهرة ‏{‏فاصبر‏}‏ وجوز غير واحد كونها عاطفة لهذه الجملة على ما تقدم، والسببية فيها ظاهرة واقتصر في البحر على كونها لعطف هذه الجملة على اخبار الكفار في الآخرة؛ وقال‏:‏ المعنى بينهما مرتبط كأنه قيل‏:‏ هذه حالهم فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله عز وجل، والعزم يطلق على الجد والاجتهاد في الشيء وعلى الصبر عليه، ‏{‏مِنْ‏}‏ بيانية كما في ‏{‏فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ والجار والمجرور في موضع الحال من ‏{‏الرسل‏}‏ فيكون أولوا العزم صفة جميعهم، وإليه ذهب ابن زيد‏.‏ والجبائي‏.‏ وجماعة أي ‏{‏فاصبر كَمَا صَبَرَ‏}‏ الرسل المجدون المجتهدون في تبليغ الوحي الذين لا يصرفهم عنه صارف ولا يعطفهم عنه عاطف والصابرون على أمر الله تعالى فيما عهده سبحانه إليهم أو قضاه وقدره عز وجل عليهم بواسطة أو بدونها‏.‏ وعن عطاء الخراساني‏.‏ والحسن بن الفضل‏.‏ والكلبي‏.‏ ومقاتل‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبي العالية‏.‏ وابن جريج، وإليه ذهب أكثر المفسرين أن ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض فأولوا العزم بعض الرسل عليهم السلام، واختلف في عدتهم وتعيينهم على أقوال، فقال الحسن بن الفضل‏:‏ ثمانية عشر وهم المذكورون في سورة الأنعام ‏(‏90‏)‏ لأنه سبحانه قال بعد ذكرهم‏:‏ ‏{‏فَبِهُدَاهُمُ اقتده‏}‏ وقيل‏:‏ تسعة نوح عليه السلام صبر على أذى قومه طويلاً‏.‏ وإبراهيم عليه السلام صبر على الإلقاء في النار‏.‏ والذبيح عليه السلام صبر على ما أريد به من الذبح‏.‏ ويعقوب عليه السلام صبر على فقد ولده‏.‏ ويوسف عليه السلام صبر على البئر والسجن وأيوب عليه السلام صبر على البلاء‏.‏ وموسى عليه السلام قال له قومه‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 61‏]‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 62‏]‏ وداود عليه السلام بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى عليه السلام لم يضع لبنة على لبنة وقال‏:‏ إنها يعني الدنيا معبرة فاعبروها ولا تعمروها، وقيل‏:‏ سبعة آدم‏.‏ ونوح‏.‏ وإبراهيم‏.‏ وموسى‏.‏ وداود‏.‏ وسليمان‏.‏ وعيسى عليهم السلام، وقيل‏:‏ ستة وهم الذين أمروا بالقتال وهم نوح‏.‏ وهود‏.‏ وصالح‏.‏ وموسى‏.‏ وداود‏.‏ وسليمان، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وعن مقاتل أنهم ستة ولم يذكر حديث الأمر بالقتال وقال‏:‏ هم نوح‏.‏ وإبراهيم‏.‏ وإسحق‏.‏ ويعقوب‏.‏ ويوسف‏.‏ وأيوب‏.‏ وأخرج ابن عساكر عن قتادة أنهم نوح‏.‏ وهود‏.‏ وإبراهيم‏.‏ وشعيب‏.‏ وموسى عليهم السلام‏.‏

وظاهره القول بأنهم خمسة وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر عنه أنهم نوح‏.‏ وإبراهيم‏.‏ وموسى‏.‏ وعيسى وظاهره القول بأنهم أربعة وهذا أصح الأقوال‏.‏

وقول الجلال السيوطي‏:‏ إن أصحها القول بأنهم خمسة هؤلاء الأربعة ونبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وأخرج ذلك ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس وهو المروى عن أبي جعفر‏.‏ وأبي عبد الله من أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ونظمهم بعض الأجلة فقال‏:‏

أولو العزم نوح والخليل الممجد *** وموسى وعيسى والحبيب محمد

مبني على أنهم كذلك بعد نزول الآية وتأسى نبينا عليه الصلاة والسلام بمن أمر بالتأسي به ولم يرد أن أصح الأقوال أن المراد بهم في الآية أولئك الخمسة صلى الله تعالى عليهم وسلم إذ يلزم عليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يصبر كصبره نفسه ولا يكاد يصح ذلك، وعلى هذا قول أبي العالية فيما أخرجه عبد بن حميد‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان‏.‏ وابن عساكر عنه أنهم ثلاثة نوح‏.‏ وإبراهيم‏.‏ وهود ورسول الله صلى الله عليه وسلم رابع لهم، ولعل الأولى في الآية القول الأول وإن صار أولوا العزم بعد مختصاً بأولئك الخمسة عليهم الصلاة والسلام عند الاطلاق لاشتهارهم بذلك كما في الأعلام الغالبة فكأنه قيل‏:‏ فاصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد مطلقاً كما صبر إخوانك الرسل قبلك ‏{‏وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ‏}‏ أي لكفار مكة بالعذاب أي لا تدع بتعجيله فإنه على شرف النزول بهم ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ‏}‏ من العذاب ‏{‏لَّمْ يَلْبَثُواْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏إِلاَّ سَاعَةً‏}‏ يسيرة ‏{‏مّن نَّهَارٍ‏}‏ لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته‏.‏ وقرأ أبي ‏{‏مّنَ النهار‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلاَغٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظته به كفاية في الموعظة أو تبليغ من الرسول، وجعل بعضهم الإشارة إلى القرآن أو ما ذكر من السورة‏.‏ وأيد تفسير ‏{‏بَلاَغٌ‏}‏ بتبليغ بقراءة أبي مجاز‏.‏ وأبي سراج الهذلي ‏{‏بَلَغَ‏}‏ بصيغة الأمر له صلى الله عليه وسلم، وبقراءة أبي مجاز أيضاً في رواية ‏{‏بَلَغَ‏}‏ بصيغة الماضي من التفعيل، واستظهر أبو حيان كون الإشارة إلى ما ذكر من المدة التي لبثوا فيها كأنه قيل‏:‏ تلك الساعة بلاغهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏متاع قَلِيلٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 197‏]‏ وقال أبو مجاز‏:‏ ‏{‏بَلاَغٌ‏}‏ مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ‏}‏ السابق فيوقف على ‏{‏وَلاَ تَسْتَعْجِل‏}‏ ويبتدأ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ‏}‏ وتكون الجملة التشبيهية معترضة بين المبتدأ والخبر؛ والمعنى لهم انتهاء وبلوغ إلى وقت فينزل بهم العذاب؛ وهو ضعيف جداً لما فيه من الفصل ومخالفة الظاهر إذ الظاهر تعلق ‏{‏لَهُمْ‏}‏ بتستعجل‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وعيسى ‏{‏بَلاَغاً‏}‏ بالنصب بتقدير بلغ بلاغاً أو بلغنا بلاغاً أو نحو ذلك‏.‏ وقرأ الحسن أيضاً ‏{‏بَلاَغٌ‏}‏ بالجر على أنه نعت لنهار‏.‏

‏{‏فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون‏}‏ الخارجون عن الاتعاظ أو عن الطاعة، وفي الآية من الوعيد والإنذار ما فيها‏.‏

‏[‏سورة محمد‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي أعرضوا عن الإسلام وسلوك طريقه أو منعوا غيرهم عن ذلك على أن صد لازم أو متعد، قال في الكشف‏:‏ والأول أظهر لأن الصد عن سبيل الله هو الاعراض عما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هذه سَبِيلِى أَدْعُو إلى الله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ فيطابق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَءامَنُواْ بِمَا نُزّلَ على مُحَمَّدٍ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 2‏]‏ وكثير من الآثار تؤيد الثاني، وفسر الضحاك ‏{‏سَبِيلِ الله‏}‏ ببيت الله عز وجل، وقال‏:‏ صدهم عنه منعهم قاصديه وليس بذلك‏.‏ والآية عامة لكل من اتصف بعنوان الصلة، وقال ابن عباس‏:‏ هم أي الذين كفروا وصدوا على الوجه الثاني في ‏{‏صدوا‏}‏ المطعون يوم بدر الكبرى، وكأنه عني من يدخل في العموم دخولاً أولياً، فإن أولئك كانوا صادين بأموالهم وأنفسهم فصدهم أعظم من صد غيرهم ممن كفر وصد عن السبيل، وأول من أطعم منهم على ما نقل عن سيرة ابن سيد الناس أبو جهل عليه اللعنة نحر لكفار قريش حين خرجوا من مكة عشرا من الإبل، ثم صفوان بن أمية نحر تسعا بعسفان، ثم سهل بن عمرو نحر بقديد عشرا ثم شيبة بن ربيعة وقد ضلوا الطريق نحر تسعا ثم عبتة بن ربيعة نحر عشرا، ثم مقيس الجمهى بالأبواء نحر تسعا، ثم العباس نحر عشرا، والحرث بن عامر نحر تسعا، وأبو البختري على ماء بدر نحر عشرا، ومقيس تسعا؛ ثم شغلتهم الحرب فأكلوا من أزوادهم، وقيل‏:‏ كانوا ستة نفر نبيه‏.‏ ومنبه ابنا الحجاج‏.‏ وعتبة‏.‏ وشيبة ابنا ربيعة‏.‏ وأبو جهل‏.‏ والحرث ابنا هشام، وضم مقاتل إليهم ستة أخرى وهم عامر بن نوفل‏.‏ وحكيم بن حزام‏.‏ وزمعة بن الأسود‏.‏ والعباس بن عبد المطلب‏.‏ وصفوان بن أمية‏.‏ وأبو سفيان بن حرب أطعم كل واحد منهم يوماً الاحابيش والجنود يستظهرون بهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي عد أبي سفيان أن صحت الرواية من أولئك كونه مع العير لأن المراد بيوم بدر زمن وقعتها فيشمل من أطعم في الطريق وفي مدتها حتى انقضت، وقال مقاتل‏:‏ هم اثنا عشر رجلاً من أهل الشرك كانوا يصدون الناس عن الإسلام وأمرونهم بالكفر، وقيل‏:‏ هم شياطين من أهل الكتاب صدوا من أراد منهم أو من غيرهم عن الدخول في الإسلام‏.‏

والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله أَضَلَّ أعمالهم‏}‏ أي إبطالها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها ولا نفع أصلاً لا بمعنى أنه سبحانه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنه عز وجل حكم ببطلانها وضياعها وأريد بها ما كانوا يعملونه من أعمال البر كصلة الأرحام وقرى الأضياف وفك الأساري وغيرها من المكارم‏.‏

وجوز أن يكون المعنى جعلها ضلالاً أي غير هدى حيث لم يوفقهم سبحانه لأن يقصدوا بها وجهه سبحانه أو جعلها ضالة أي غير مهتدية على الإسناد المجازي، ومن قال الآية في المطعمين واضرابهم قال‏:‏ المعنى إبطال جل وعلا ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالانفاق الذي أنفقوه في سفرهم إلى محاربته عليه الصلاة والسلام وغيره بنصر رسوله صلى الله عليه وسلم وإظهار دينه على الدين كله، ولعله أوفق بما بعده، وكذا بما قيل أن الآية نزلت ببدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ قال ابن عباس فيما أخرجه عنه جماعة منهم الحاكم وصححه هم أهل المدينة الأنصار، وفسر رضي الله تعالى عنه ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 1‏]‏ بأهل مكة قريش، وقال مقاتل‏:‏ هم ناس من قريش، وقيل‏:‏ مؤمنو أهل الكتاب، وقيل‏:‏ أعم من المذكورين وغيرهم فإن الموصول من صيغ العموم ولا داعي للتخصيص ‏{‏وَءامَنُواْ بِمَا نُزّلَ على مُحَمَّدٍ‏}‏ من القران، وخص بالذكر الإيمان بذلك مع اندراجه فيما قبله تنويها بشأنه وتنبيهاً على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به وانه الأصل في الكل ولذلك أكد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الحق مِن رَّبّهِمْ‏}‏ وهو جملة معترضة بين المبتدأ والخبر مفيدة لحصر الحقية فيه على طريقة الحصر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ وقولك‏:‏ حاتم الجواد فيراد بالحق ضد الباطل، وجوز أن يكون الحصر على ظاهره والحق الثابت، وحقية ما نزل عليه عليه الصلاة والسلام لكونه ناسخاً لا ينسخ وهذا يقتضي الاعتناء به ومنه جاء التأكيد، وأياً ما كان فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏الحق‏}‏ وقرأ زيد بن علي‏.‏ وابن مقسم ‏{‏نَزَّلَ‏}‏ مبنياً للفاعل، والأعمش ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ معدى بالهمزة مبنياً للمفعول‏.‏ وقرىء ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ بالهمز مبنياً للفاعل ‏{‏وَنُزّلَ‏}‏ بالتخفيف ‏{‏كَفَّرَ عَنْهُمْ‏}‏ أي سترها بالإيمان والعمل الصالح، والمراد إزالها ولم يؤاخذهم بها ‏{‏سيئاتهم وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ‏}‏ أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد، وتفسير البال بالحال مروى عن قتادة وعنه تفسيره بالشأن وهو الحال أيضاً أو ماله خطر، وعليه قول الراغب‏:‏ الباب الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال‏:‏ ما باليت بكذا بالة أي ما اكترثت به، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل أمر ذي بال» الحديث ويكون بمعنى الخاطر القلبي ويتجوز به عن القلب كما قال الشهاب‏.‏ وفي البحر حقيقة البال الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب ومن صلح قلبه صلحت حاله، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع له، وحكى عن السفاقسي تفسيره هنا بالفكر وكأنه لنحو ما أشير إليه، وهو كما في البحر أيضاً مما لا يثني ولا يجمع وشذ قولهم في جمعه بالات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما مر من الاضلال والتكفير والاصلاح وهو مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبّهِمْ‏}‏ أي ذلك كائن بسبب اتباع الأولين الباطل واتباع الآخرين الحق؛ والمراد بالحق والباطل معناهما المشهور‏.‏

وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن مجاهد تفسير ‏{‏الباطل‏}‏ بالشيطان‏.‏ وفي البحر‏.‏ قال مجاهد‏:‏ الباطل الشيطان وكل ما يأمر به و‏{‏الحق‏}‏ هو الرسول والشرع، وقيل‏:‏ الباطل ما لا ينتفع به، وجوز الزمخشري كون ذلك خبر مبتدأ محذوف و‏{‏بِأَنَّ‏}‏ الخ في محل نصب على الحال، والتقدير الأمر ذلك أي كما ذكر ملتبساً بهذا السبب‏.‏

والعامل في الحال أما معنى الإشارة وأما نحو أثبته وأحقه فإن الجملة تدل على ذلك لأنه مضمون كل خبر وتعقبه أبو حيان بأن فيه ارتكاباً للحذف من غير داع له، والجار والمجرور أعني ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ في موضع الحال على كل حال، والكلام أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ تصريح بما أشعر به الكلام السابق من السببية لما فيه من البناء على الموصول، ويسميه علماء البيان التفسير، ونظيره ما أنشده الزمخشري لنفسه‏:‏

به فجع الفرسان فوق خيولهم *** كما فجعت تحت الستور العواتق

تساقط من أيديهم البيض حيرة *** وزعزع عن أجيادهن المخانق

فإن فيه تفسيراً على طريق اللف والنشر كما في الآية وهو من محاسن الكلام ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الضرب البديع ‏{‏يَضْرِبُ الله‏}‏ أي يبين للنصاس‏}‏ أي لأجلهم ‏{‏‏}‏ أي لأجلهم ‏{‏أمثالهم‏}‏ أي أحوال الفريقين المؤمنين والكافرين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال، وهي اتباع المؤمنين الحق وفوزهم وفلاحهم، واتباع الكافرين الباطل وخيبتهم وخسرانهم، وجوز أن يراد بضرب الأمثال التمثيل والتشبيه بأن جعل سبحانه اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار والاضلال مثلا لخيبتهم واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين وتكفير السيآت مثلا لفوزهم والإشارة بذلك لما تضمنه الكلام السابق، وجوز كون ضمير ‏{‏أمثالهم‏}‏ للناس؛ والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها فإن ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يترتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام أي إذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتموهم في المحارب ‏{‏فَضَرْبَ الرقاب‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏لَقِيتُمُ‏}‏ من اللقاء وهو الحرب و‏{‏ضُرِبَ‏}‏ نصب على المصدرية لفعل محذوف والأصل أضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر وأنيب منابه مضافاً إلى المفعول، وحذف الفعل الناصب في مثل ذلك مما أضيف إلى معموله واجب، وهو أحد مواضع يجب فيها الحذف ذكرت في مطولات كتب النحو، وليس منها نحو ضرباً زيداً على ما نص عليه ابن عصوفر‏.‏

وذكر غير واحد أن فيما ذكر اختصاراً وتأكيداً ولا كلام في الاختصار، وأما التأكيد فظاهر القول به أن المصدر بعد حذف عامله مؤكد، وقال الحمصي في حواشي التصريح‏:‏ إن المصدر في ذلك مؤكد في الأصل وأما الآن فلا لأنه صار بمنزلة الفعل الذي سد هو مسده فلا يكون مؤكداً بل كل مصدر ثار بدلاً من اللفظ بالفعل لا يكون مؤكداً ولا مبيناً لنوع ولا عدد، و‏{‏ضُرِبَ الرقاب‏}‏ مجاز مرسل عن القتل، وعبر به عنه إشعاراً بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن وتصويراً له بأشنع صورة لأن ضرب الرقبة فيه إطارة الرأس الذي هو أشرف أعضاء البدن ومجمع حواسه وبقاء البدن ملقى على هيئة منكرة والعياذ بالله تعالى، وذكر أن في التعبير المذكور تشجيع المؤمنين وأنهم منهم بحيث يتمكنون من القتل بضرب أعناقهم في الحرب ‏{‏حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ‏}‏ أي أوقعتم القتل بهم بشدة وكثرة على أن ذلك مستعار من ثخن المائعات لمنعه عن الحركة، والمراد حتى إذ أكثرتم قتلهم وتمكنتم من أخذ من لم يقتل ‏{‏فَشُدُّواْ الوثاق‏}‏ أي فأسروهم واحفظوهم، فالشد وكذا ما بعد في حق من أسر منهم بعد اثخانهم لا للمثخن إذ هو بالمعنى السابق لا يشد ولا يمن عليه ولا يفدي لأنه قد قتل أو المعنى حتى إذا أثقلتموهم بالجراح ونحوه بحيث لا يستطيعون النهوض فأسروهم واحفظوهم؛ فالشد وكذا ما بعد في حق المثخن لأنه بهذا المعنى هو الذي لم يصل إلى حد القتل لكن ثقل عن الحركة فصار كالشيء الثخين الذي لم يسل ولم يستمر في ذهابه، والاثخان عليه مجاز أيضاً، و‏{‏الوثاق‏}‏ في الأصل مصدر كالخلاص وأريد به هنا ما يوثق به‏.‏ وقرىء ‏{‏الوثاق‏}‏ بالكسر وهو اسم لذلك، ومجيء فعال اسم آلة كالحزام والركاب نادر على خلاف القياس، وظاهر كلام البعض أن كلا من المفتوح والمكسور اسم لما يوثق به، ولعل المراد بيان المراد هنا‏.‏

‏{‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء‏}‏ أي فاما تمنون منا وإما تفدون فداء، والكلام تفصيل لعاقبة مضمون ما قبله من شد الوثاق، وحذف الفعل الناصب للمصدر في مثل ذلك واجب أيضاً، ومنه قوله‏:‏

لأجهدن فاما درء واقعة *** ثخشى وإما بلوغ السؤال والامل

وجوز أبو البقاء كون كل من ‏{‏مِنَّا‏}‏ و‏{‏فداء‏}‏ مفعولا به لمحذوف أي أولوهم منا أو أقبلوا منهم فداء، وليس كما قال أبو حيان اعراب نحوي، وقرأ ابن كثير في رواية شبل ‏{‏وَأَمَّا فدى‏}‏ بالفتح والقصر كعصا‏.‏ وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز قصره لأنه مصدر فاديته، قال الشهاب‏:‏ ولا عبرة به فإن فيه أربع لغات الفتح والكسر مع المد والقصر ولغة خامسة البناء مع الكسر كما حكاه الثقات انتهى، وفي الكشف نقلاً عن الصحاح الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور‏.‏ ومن العرب من يكسر الهمزة أي يبنيه على الكسر إذا جاور لام الجر خاصة لأنه اسم فعل بمعنى الدعاء، وأنشد الأصمعي بين النابغة‏:‏

مهلاً فداء لك *** وهذا الكسر مع التنوين كما صرح به في البحر، وظاهر الآية على ما ذكره السيوطي في أحكام القرآن العظيم امتناع القتل بعد الأسر وبه قال الحسن‏.‏ وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن مردويه عنه أنه قال‏:‏ أتى الحجاج بأسارى فدفع إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلاً يقتله فقال ابن عمر‏:‏ ليس بهذا أمرنا إنما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء‏}‏ وفي حكم الأساري خلاف فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا لأنه صلى الله عليه وسلم قتل صبرا عقبة بن أبي معيط‏.‏ وطعيمة بن عدى‏.‏ والنضر بن الحرث التي قالت فيه أخته أبياتاً منها تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

ما كان ضرك لو مننت وربما *** من الفتى وهو المغيظ المحنق

وون في قتلهم حسم مادة فسادهم بالكلية، وليس ولحاد من الغزاة أن يقتل أسيراً بنفسه فإن فعل بلا ملجىء كخوف شر الأسير كان للإمام أن يعزره إذا وقع على خلاف مقصوده ولكن لا يضمن شيئاً، وإن شاء استرقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام، وإن شاء تركهم ذمة أحراراً للمسلمين كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه ذلك في أهل السواد الا أسارى مشركي العرب والمرتدين فإنهم لا تقبل منهم جزية ولا يجوز استراقاتهم بل الحكم فيهم إما الإسلام أو السيف، وإن أسلم الأساري بعد الأسر لا يقتلهم لاندفاع شرهم بالإسلام، ولكن يجوز استراقاتهم فإن الإسلام لا ينافي الرق جزاء على الكفر الأصلي وقد وجد بعد انعقاد سبب الملك وهو الاستيلاء على الحربي غير المشرك من العرب، بخلاف ما لو أسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحراراً لأنه اسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم، ولا يفادي بالاساري في احدى الروايتين عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لما في ذلك من معونة الكفر لأنه يعود الأسير الكافر حرباً علينا، ودفع شر حرابته خيرم ن استنقاذا لمسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه فقط، والضرر بدفع أسيرهم إليهم يعود على جماعة المسلمين‏.‏

والرواية الأخرى عنه أنه يفادي وهو قول محمد‏.‏ وأبي يوسف‏.‏ والإمام الشافعي‏.‏ ومالك‏.‏ وأحمد إلا بالنساء فإنه لا يجوز المفاداة بهن عندهم، ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم، وهذه رواية السير الكبير، قيل‏:‏ وهو أظهر الروايتين عن الإمام أبي حنيفة، وقال أبو يوسف‏:‏ تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمة لا بعدها، وعند محمد تجوز بكل حال‏.‏ ووجه ما ذكره الأئمة من جواز المفاداة أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر للانتفاع به ولأن حرمته عظيمة وما ذكر من الضرر الذي يعود إلينا بدفعه إليهم يدفعه ظاهراً المسلم الذي يتخلص منهم لأنه ضرر شخص واحد فيقوم بدفعه واحد مثله ظاهراً فيتكافئان وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى فإن فيها زيادة ترجيح‏.‏

ثم أنه قد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أخرج مسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين ويحتج لمحمد بما أخرجه مسلم أيضاً عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة قال‏:‏ خرجنا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال‏:‏ يا سلمة هب لي المرأة يعني التي نقله أبو بكر إياها فقلت‏:‏ يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً، ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال‏:‏ «يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك» فقلت‏:‏ هي لك يا رسول الله فوالله ما كشفت لها ثوباً فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففدى بها ناساً من المسلمين أسروا بمكة، ولا يفادي بالأسير إذا أسلم وهو بأيدينا لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه يفيد تخليص مسلم من غير إضرار بمسلم آخر، وأما المفاداة بمال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بين في المفاداة بالمسلمين من ردهم حرباً علينا‏.‏

وفي «السير الكبير» أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة، قيل‏:‏ استدلالاً بأساري بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين بل في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال، وأما المن على الأساري وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنيفة‏.‏ ومالك‏.‏ وأحمد، وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلى الله عليه وسلم من على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع على ما ذكره ابن إسحق بسنده‏.‏ وأبو داود من طريقه إلى عائشة لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنائه عليها فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رق لها رقة شديدة وقال لأصحابه‏:‏ ‏"‏ إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرنا وتردوا لها الذي لها ‏"‏ ففعلوا ذلك مغتبطين به، ورواه الحاكم وصححه وزاد «وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلي زينب إليه ففعل» ومن صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال بن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه، وحديثه في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة، ويكفي ما ثبت في «صحيح البخاري» من قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتني يعني أساري بدر لتركتهم له ‏"‏ فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر وهو الصادق المصدوق بأنه يطلقهم لو سأله المطعم، والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعاً لمكان العصمة، وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه لا ينفي جوازه شرعاً‏.‏

واستدل أيضاً بالآية التي نحن فيها فإن الله تعالى خير فيها بين المن والفداء، والظاهر أن المراد بالمن الإطلاق مجاناً؛ وكون المراد المن عليهم بترك القتل وإبقاءهم مسترقين أو تخليتهم لقبول الجزية وكونهم من أهل الذمة خلاف الظاهر، وبعض النفوس يجد طعم الإلاء أحلى من هذا المن‏.‏

وأجاب بعض الحنفية بأن الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ من سورة براءة فإنه يقتضي عدم جواز المن وكذا عدم جواز الفداء وهي آخر سورة نزلت في هذا الشأن، وزعم أن ما وقع من المن والفداء إنما كان في قضية بدر وهي سابقة عليها وإن كان شيء من ذلك بعد بدر فهو أيضاً قبل السورة‏.‏

والقول بالنسخ جاء عن ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ والضحاك‏.‏ ومجاهد في روايات ذكرها الجلال السيوطي في «الدر المنثور»، وقال العلامة ابن الهمام‏:‏ قد يقال إن ذلك يعني ما في سورة براءة في حق غير الأساري بدليل جواز الاسترقاق فيهم فيعلم أن القتل المأمور به في حق غيرهم، وما ذكره في جواز الاسترقاق ليس على إطلاقه إذ لا يجوز كما علمت استرقاق مشركي العرب ‏{‏حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا‏}‏ أي آلاتها وأثقالها من السلاح وغيره، قال الأعشى‏:‏

وأعددت للحرب أوزارها *** رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا

ومن نسج داود موضونة *** تساق إلى الحرب عيراً فعيرا

وهي في الأصل الأحمال فاستعيرت لما ذكر استعارة تصريحية، ويجوز أن يكون في ‏{‏الحرب‏}‏ استعارة مكنية بأن تشبه بإنسان يحمل حملاً على رأسه أو ظهره ويثبت لها ما أثبت تخييلاً، وكلام الشكاف أميل إليه، وقيل‏:‏ هي أحمال المحارب أضيفت للحرب تجوزاً في النسبة الإضافية وتغليباً لها على الكراع، وإسناد الوضع للحرب مجازي أيضاً وليس بذاك‏.‏ وعد بعض الأماثل الكلام تمثيلاً، والمراد حتى تنقضي الحرب وقال‏:‏ يجوز أن يكون إرادة ذلك من باب المجاز المتفرع على الكناية كما في قوله‏:‏

فألقت عصاها واستقر بها النوى *** فإنه كنى به عن انقضاء السفر والإقامة، وقيل‏:‏ الأوزار جمع وزر بمعنى إثم وهو هنا الشرك والمعاصي، ‏{‏وَتَضَعُ‏}‏ بمعنى تترك مجازاً، وإسناده للحرب مجاز أو بتقدير مضاف، والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم، وفيه أنه لا يستحسن إضافة الأوزار بمعنى الآثام إلى الحرب، و‏{‏حتى‏}‏ عند الشافعي عليه الرحمة ومن قال نحو قوله‏:‏ غاية للضرب، والمعنى اضربوا أعناقهم حتى تنقضي الحرب، وليس هذا بدلاً من الأول ولا تأكيداً له بناء على ما قرروه من أن حتى الداخلة على إذا الشرطية ابتدائية أو غاية للشد أو للمن والفداء معاً أو للمجمع من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضَرْبَ الرقاب‏}‏ الخ بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم، وقيل‏:‏ بنزول عيسى عليه السلام، وروى ذلك عن سعيد بن جبير‏.‏ والحسن، وفي الحديث ما يؤيده‏.‏ أخرج أحمد‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهما عن سلمة بن نفيل قال‏:‏ بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول الله إن الخيل قد سيبت ووضع السلاح وزعم أقوام أن لا قتال وإن قد وضعت الحرب أوزارها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كذبوا فالآن جاء القتال ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خالفهم يزيغ الله تعالى قلوب قوم ليرزقهم منهم وتقاتلون حتى تقوم الساعة ولاتزال الخيل معقوداً في نواصيها الخير حتى تقوم الساعة ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج» وهي عند من يقول‏:‏ لا من ولا فداء اليوم غاية للمن والفداء إن حمل على الحرب على حرب بدر بجعل تعريفه للعهد، والمعنى المن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها، وغاية للضرب والشد إن حملت على الجنس، والمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب أوزارها بأن لا يبقى للمشركين شوكة، ولا تجعل غاية للمن والفداء مع إرادة الجنس‏.‏

وفي زعم جوازه والتزام النسخ كلام فتأمل ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر ذلك أو افعلوا ذلك فهو في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أو في محل نصب مفعول لفعل كذلك، والإشارة إلى ما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضَرْبَ الرقاب‏}‏ الخ لا إلى ما تقدم من أول السورة إلى ههنا لأن افعلوا لا يقع على جميع السالف وعلى الرفع ينفك النظم الجليل إن لم يحمل عليه لأن ما بعد كلام فيهم ‏{‏وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ‏}‏ لانتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق أو موت جارف ‏{‏ولكن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ‏}‏ ولكن أمركم سبحانه بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فينالوا الثواب ويخلد في صحف الدهر ما لهم من الفضل الجسيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم عز وجل ببعض انتقامه سبحانه فيتعظ به بعض منهم ويكون سبباً لاسلامه؛ واللام متعلق بالفعل المقدر الذي ذكرناه ‏{‏والذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ أي استشهدوا‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏قَاتَلُواْ‏}‏ أي جاهدوا، والجحدري بخلاف عنه ‏{‏قاتلوا‏}‏ بفتح القاف والتاء بلا ألف، وزيد بن ثابت‏.‏ والحسن‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وعيسى‏.‏ والجحدري أيضاً ‏{‏قاتلوا‏}‏ بالبناء للمفعول وشد التاء‏.‏

‏{‏فَلَن يُضِلَّ أعمالهم‏}‏ فلن يضيعها سبحانه، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ مبنياً للمفعول ‏{‏أعمالهم‏}‏ بالرفع على النيابة عن الفاعل‏.‏ وقرىء ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ بفتح الياء من ضل ‏{‏أعمالهم‏}‏ بالرفع على الفاعلية‏.‏ والآية قال قتادة‏:‏ كما أخرجه عنه ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم ذكرنا لنا أنها نزلت في يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون يومئذ أعل هبل ونادى المسلمون الله أعلى وأجل فنادى المشركون يوم بيوم بدر وإن الحرب سجال لنا عزى ولا عزى لكن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الله مولانا ولا مولى لكم إن القتلى مختلفة أما قتلانا فأحياء مرزوقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون» ومنه يعلم وجه قراءة ‏{‏قاتلوا‏}‏ بصيغة التفعيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَهْدِيهِمْ‏}‏ سيوصلهم إلى ثواب تلك الأعمال من النعيم المقيم والفضل العظيم، وهذا كالبيان لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَن يُضِلَّ أعمالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏ أو سيثبت جل شأنه في الدنيا هدايتهم، والمراد الوعد بأن يحفظهم سبحانه ويصونهم عما يورث الضلال وحبط الأعمال، وهو كالتعليل لذلك، ويجوز أن يكون كالبيان له أيضاً‏.‏

‏{‏وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ‏}‏ أي شأنهم، قال الطبرسي‏:‏ المراد إصلاح ذلك في العقبى فلا يتكرر مع ما تقدم لأن المراد به إصلاح شأنهم في الدين والدنيا فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه أو استئناف كما قال أبو البقاء، والتعريف في الآخرة‏.‏ أخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير عن مجاهد أنه قال‏:‏ يهدي أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله تعالى لهم منها لا يخطؤن كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحداً، وفي الحديث «لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا» وذلك بإلهام منه عز وجل، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال‏:‏ بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمل الشخص في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ويتبعه الشخص حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه‏.‏

وورد في بعض الآثار أن حسناته تكون دليلاً له إلى منزله فيها، وقيل‏:‏ إنه تعالى رسم على كل منزل اسم صاحبه وهو نوع من التعريف، وقيل‏:‏ تعريفها تحديدها يقال‏:‏ عرف الدار وأرفها أي حددها أي حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة، وقيل‏:‏ أي شرفها لهم ورفعها وعلاها على أن عرفها من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها، وعن ابن عباس في رواية عطاء، وروى عن مؤرج أي طيبها لهم على أنه من العرف وهو الريح الطيبة ههنا، ومنه طعام معرف أي مطيف، وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل، وعن الجبائي أن التعريف في الدنيا وهو بذكر أوصافها، والمراد أنه تعالى لم يزل يمدحها لهم حتى عشقوها فاجتهدوا فيما يوصلهم إليها‏.‏

والأذن تعشق قبل العين أحياناً *** وعلى هذا المراد قيل‏:‏

اشتاقه من قبل رؤيته كما *** تهوى الجنان بطيب الأخبار

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُمْ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله‏}‏ أي دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم لا على أن الكلام على تقدير مضاف بل على أن نصرة الله فيه تجوز في النسبة فنصرته سبحانه نصرة رسوله ودينه إذ هو جل شأنه وعلا المعين الناصر وغيره سبحانه المعان المنصور ‏{‏يَنصُرْكُمُ‏}‏ على أعدائكم ويفتح لكم ‏{‏وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ‏}‏ في مواطن الحرب ومواقفها أو على محجة الإسلام، والمراد يقويكم أو يوفقكم للدوام على الطاعة‏.‏

وقرأ المفصل عن عاصم ‏{‏وَيُثَبّتْ‏}‏ مخففاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ‏}‏ من تعس الرجل بفتح العين تعساً أي سقط على وجهه، وضده انتعش أي قام من سقوطه، وقال شمر‏.‏ وابن شميل‏.‏ وأبو الهيثم‏.‏ وغيرهم‏:‏ تعس بكسر العين، ويقال‏:‏ تعساً له ونكساً على أن الأول كما قال ابن السكيت بمعنى السقوط على الوجه والثاني بمعنى السقوط على الرأس، وقال الحمصي في «حواشيه على التصريح»‏:‏ تعس تعساً أي لا انتعش من عثرته ونكساً بضم النون وقد تفتح إما في لغة قليلة وإما اتباعاً لتعساً، والنكس بالضم عود المرض بعد النقه، ويراد بذلك الدعاء، وكثر في الدعاء على العاثر تعساً له، وفي الدعاء له لعاً له أي انتعاشاً وإقامة، وأنشدوا قول الأعشى يصف ناقة‏:‏

كلفت مجهولة نفسي وشايعني *** همي عليها إذا ما آلها لمعا

بذات لوث عفرناة إذا عثرت *** فالتعس أولى لها من أن أقول لعا

وقال ثعلب‏.‏ وابن السكيت أيضاً التعس الهلاك، ومنه قول مجمع بن هلال‏:‏

تقول وقد أفردتها من حليلها *** تعست كما أتعستني يا مجمع

وفي «القاموس» التعس الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط والفعل كمنع وسمع أو إذا خاطبت قلت‏:‏ تعست كمنع وإذا حكيت قلت‏:‏ تعس كسمع، ويقال‏:‏ تعسه الله تعالى وأتعسه ورجل تاعس وتعس، وانتصابه على المصدر بفعل من لفظه يجب إضماره لأنه للدعاء كسقيا ورعياً فيجري مجرى الأمثال إذا قصد به ذلك، والجار والمجرور بعده متعلق بمقدر للتبيين عند كثير أي أعني له مثلاً فنحو تعساً له جملتان‏.‏

وذهب الكوفيون إلى أنه كلام واحد، ولابن هشام في هذا الجار مذكور في بحث لام التبيين فلينظر هناك‏.‏

واختلفت العبارات في تفسير ما في الآية الكريمة، فقال ابن عباس‏:‏ أي بعداً لهم‏.‏ وابن جريج‏.‏ والسدي أي حزناً لهم، والحسن أي شتماً لهم، وابن زيد أي شقاء لهم، والضحاك أي رغماً لهم، وحكى النقاش تفسيره بقبحا لهم، وقال غير واحد‏:‏ أي عثوراً وانحطاطاً لهم، وما ألطف ذكر ذلك في حقهم بعد ذكر تثبيت الاقدام في حق المؤمنين، وفي رواية عن ابن عباس يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار، وأكثر الأقوال ترجع إلى الدعاء عليهم بالهلاك‏.‏

وجوز الزمخشري في إعرابه وجهين‏.‏ الأول‏:‏ كونه مفعولاً مطلقاً لفعل محذوف كما تقدم‏.‏ والثاني‏:‏ مفعولاً به لمحذوف أي فقضى تعساً لهم، وقدر على الأول القول أي فقال‏:‏ تعساً لهم، والذي دعاه لذلك على ما قيل جعل ‏{‏الذين‏}‏ مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبراً له وهي لانشاء الدعاء والإنشاء لا يقع خبراً بدون تأويل، فأما أن يقدر معها قول أو تجعل خبراً بتقدير قضى، وجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَضَلَّ أعمالهم‏}‏ عطفاً على ما قدر‏.‏

وفي «الكشف» المراد من قال‏:‏ تعساً لهم أهلكهم الله لا أن ثم دعاء وقولاً، وذلك لأنه لا يدعي على شخص إلا وهو مستحق له فإذا أخبر تعالى أنه يدعو عليه دل على تحقق الهلاك لا سيما وظاهر اللفظ أن الدعاء منه عز وجل، وهذا مجاز على مجاز أعني أن القول مجاز وكذلك الدعاء بالتعس، ولم يجعل العطف على ‏{‏تعساً‏}‏ لأنه دعاء، و‏{‏الله أَضَلَّ‏}‏ أخبار، ولو جعل دعاء أيضاً عطفاً على ‏{‏تعساً‏}‏ على التجوز المذكور لكان له وجه انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن اعتبار ما اعتبره الزمخشري ليس لأجل أمر العطف فقط بل لأجل أمر الخبرية أيضاً، فإن قيل بصحة الاخبار بالجملة الإنشائية من غير تأويل استغنى عما قاله بالكلية، ودخلت الفاء في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط‏.‏

وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المفعولية لفعل مقدر يفسره الناصب لتعساً أي اتعس الله الذين كفروا أو تعس الله الذي كفروا تعساً لما سمعت عن «القاموس» وقد حكى أيضاً عن أبي عبيدة، والفاء زائدة في الكلام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبّرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 3‏]‏ ويزيدها العرب في مثل ذلك على توهم الشرط، وقيل‏:‏ يقدر الفعل مضارعاً معطوفاً على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبّتُ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏ أي ويتعس الذين الخ‏.‏ والفاء للعطف فالمراد اتعاس بعد اتعاس، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإياى فارهبون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏ أو لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الاجمال، وفيه مقال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي ما ذكر من التعس والإضلال ‏{‏بِأَنَّهُمْ‏}‏ بسبب أنهم ‏{‏كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ الله‏}‏ من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء، وهذا تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن للتعس والإضلال إذ قد علم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 8‏]‏ الخ سببية مطلق الكفر الداخل فيه الكفر بالقرآن دخولاً أولياً لذلك ‏{‏فَأَحْبَطَ‏}‏ لأجل ذلك ‏{‏أعمالهم‏}‏ التي لو كانوا عملوها مع الايمان لأثيبوا عليها، وذكر الاحباط مع ذكر الإضلال المراد هو منه إشعاراً بأنه يلزم الكفر بالقرآن ولا ينفك عنه بحال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض‏}‏ أي أقعدوا في أماكنهم فلم يسيروا فيها ‏{‏فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من الأمم المكذبة فإن آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ كيف كانت عاقبتهم‏؟‏ فقيل‏:‏ أهلك ما يختص بهم من النفس والأهل والمال يقال دمره أهلكه ودمر عليه أهلك ما يختص به فدمر عليه أبلغ من دمره، وجاءت المبالغة من حذف المفعول وجعله نسيامنسياً والاتيان بكلمة الاستعلاء وهي لتضمن التدمير معنى الإيقاع أو الهجوم أو نحوه ‏{‏وللكافرين‏}‏ أي لهؤلاء الكافرين السائرين سيرتهم ‏{‏أمثالها‏}‏ أمثال عاقبتهم أو عقوبتهم لدلالة ما سبق عليها لكن لا على أن لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه بل مثله، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذبة، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين وقد قتلوا وأسروا بأيدي من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم، والقتل بيد المثل أشد من الهلاك بسبب عام، وقيل‏:‏ المراد بالكافرين المتقدمون بطريق الظاهر موضع الضمير كأنه قيل‏:‏ دمر الله تعالى عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ثبوت أمثال عاقبة أو عقوبة الأمم السالفة لهؤلاء، وقيل‏:‏ إشارة إلى النصر وهو كما ترى ‏{‏بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي ناصرهم على أعدائهم، وقرىء ‏{‏وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏{‏وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ‏}‏ فيدفع ما حل بهم من العقوبة والعذاب، ولا يناقض هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله مولاهم الحق‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 62‏]‏ لأن المولى هناك بمعنى المالك فلم يتوارد النفي والإثبات على معنى واحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار‏}‏ بيان لحكم ولايته تعالى لهم وثمرتها الأخروية ‏{‏والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ‏}‏ أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياماً قلائل ‏{‏وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الانعام‏}‏ الكاف في موضع نصب إما على الحال من ضمير المصدر كما يقول سيبويه أي يأكلونه أي الأكل مشبهاً أكل الأنعام، وإما على أنه نعت لمصدر محذوف كما يقول أكثر المعربين أي أكلاً مثل أكل الأنعام، والمعنى أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر كما تقول للجاهل تعيش كما تعيش البهيمة لا تريد التشبيه في مطلق العيش ولكن في خواصه ولوازمه، وحاصله أنهم يأكلون غافلين عن عواقبهم ومنتهى أمورهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنار مَثْوًى لَّهُمْ‏}‏ أي موضع إقامة لهم، حال مقدر من واو ‏{‏يَأْكُلُونَ‏}‏‏.‏

وجوز أن يكون استئنافاً وكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ‏}‏ في مقابلة قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ لما فيه من الايماء إلى أنهم عرفوا أن نعيم الدنيا خيال باطل وظل زائل، فتركوا الشهوات وتفرغوا للصالحات، فكان عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم وهؤلاء غفلوا عن ذلك فرتعوا في دمنهم كالبهائم حتى ساقهم الخذلان إلى مقرهم من درك النيران، وهذا ما ذكره العلامة الطيبي في بيان التقابل بين الآيتين، وقال بعض الأجلة‏:‏ في الكلام احتباك وذلك أنه ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنة أولاً دليلاً على حذف الأعمال الفاسدة ودخول النار ثانياً وذكر التمتع والمثوى ثانياً دليلاً على حذف التقلل والمأوى أولاً والأول أحسن وأدق، وأسند إدخال الجنة إلى الله تعالى ولم يسلك نحو هذا المسلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنار مَثْوًى لَّهُمْ‏}‏ وخولف بين الجملتين فعلية واسمية للإيذان بسبق الرحمة والإعلام بمصير المؤمنين والوعد بأن عاقبتهم أن الله سبحانه يدخلهم جنات وأن الكافرين مثواهم النار وهم الآن حاضرون فيها ولا يدرون وكالبهائم يأكلون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَأَيّن‏}‏ بمعنى كم الخبرية وهي مبتدأ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن قَرْيَةٍ‏}‏ تمييز لها، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ‏}‏ صفة لقرية كما أن قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏التى أَخْرَجَتْكَ‏}‏ صفة لقريتك، وقد حذف عنهما المضاف وأجرى أحكامه عليهما كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهلكناهم‏}‏ أي وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب، وجوز أن لا يكون هناك حذف وإنما أطلق المحل وأريد الحال مجازاً، وإسناد الإخراج إلى أهل قريته صلى الله عليه وسلم وهي مكة المكرمة مجاز من باب الإسناد إلى السبب لأنهم عاملوه صلى الله عليه وسلم بما عاملوه فكانوا بذلك سبباً لإخراجه حين أذن الله تعالى له عليه الصلاة والسلام بالهجرة منها، ونظير ذلك أقدمني بلدك حق لي عليك‏.‏ وأنت تعلم أنه على ما حققه الأجلة بحتمل أوجهاً ثلاثة‏.‏ مجازاً في الإسناد إذا كان الإقدام مستعملاً في معناه الذي وضع له وإن كان موهوماً‏.‏ ومجازاً في الطرف إذا كان مستعملاً في معنى الحمل على القدوم‏.‏ واستعارة باكلناية إن كان الحق مستعملاً في المقدم، والشيخ يقول في مثل ذلك‏:‏ إن الفعل المتعدي موهوم لا فاعل له ليصير الإسناد إليه حقيقة فلا إقدام مثلاً في قصد المتكلم وإنما هو تصوير القدوم بصورة الإقدام، وإسناده إلى الحق المصور بصورة المقدم مبالغة في كونه داعياً للقدوم، وارتضاه السالكوتي في «حواشي شرح مختصر التلخيص» وذب عنه القال والقيل، وتمام الكلام هناك، والكلام في الآية على طرز ذاك، ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة والسلام للإيذان بأولو يتهابه لقوة جنايتها، وعلى طريقته قول النابغة‏:‏

كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** وأيسر جرماً منك ضرح بالدم

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ ناصر لَهُمْ‏}‏ بيان لعدم خلاصهم بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وخو حكاية حال ماضية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 9‏]‏ ولا نسلم أن اسم الفاعل إذا لم يعمل حقيقة في الماضي، والآية تسلية له صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج عبد بن حميد‏.‏ وأبو يعلى‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال‏:‏ ‏"‏ أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك ‏"‏ فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول أهل الجاهلية فأنزل الله سبحانه ‏{‏وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ‏}‏ الخ، وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول السورة فتذكر‏.‏